بداية أوجه التحية للزملاء القائمين على استفتاء مهرجان الإسكندرية السينمائي، وهو مالم أشارك به هذا العام مما يرفع الحرج عن الإتفاق أو الإختلاف مع ما جاء من استطلاع آراء النقاد والكتاب الموقرين، وأهنئ الأفلام الفائزة عن جدارة واستحقاق..
مما لاشك فيه أن فكرة ( الحرية ) هي من أهم وأنبل ما بشرت به السينما في أي مكان بالعالم، شرقا أو غربا، وإذا كانت نادت بالحب؛ فالخبز يأتي ومعه الحرية بمفهومها المسؤول والمطلق، حرية الإختيار؛ حرية الفرد، حرية الشعوب في مواجهة الاستعمار أو الظلم بشكل عام وأول فيلم روائي قصير صامت "برسوم يبحث عن وظيفة" كان يناقش فكرة البطالة التي جاءت بها الحرب العالمية الأولى وهي قضية سياسية / إجتماعية ومطلب إنساني، وقد بدأ إهتمام الفن السابع بفكرة الحرية مبكرا، تقريبا منذ العقد السينمائي الثاني من تاريخ السينما المصرية، فقبل نهاية العام 1938 جاءنا هذا الفيلم المبهر في فكرته ومضمونه ونجومه بآداء بسيط ولكن عمق الفكرة ومغازلتها لفطرة الإنسان / المشاهد، لامست القلوب وحققت عنصر الدهشة التي ينشدها كل مبدع بعبقرية وتوحد، أقول جاء فيلم فريتز كرامب " لاشين " ليحقق السبق نحو أفق جديد فتحته السينما المصرية بجرأة وشجاعة نادرة بإسقاطاته على بعض مآخذ الفترة الملكية في مصر، وكيف لا ومؤلفه ( كاتب القصة ومعالج السيناريو ) هو أحد نجومها الرواد وهو المخرج العبقري أحمد بدرخان، فيما تصدى للديالوج ( الحوار ) واحد من أنبغ شعراء مصر شاعرها الغنائي الرائع أحمد رامي؛ حيث نجد كل جملة ينطقها أحد الممثلين في الفيلم وكأنها مقطع من أغنية تلامس القلوب المرهقة من الظلم والفقر سواء على لسان البطل لاشين ( حسن عزت الذي لاندري سر اختفائه رغم امتلاكه لكل مقومات النجم وإن كان يحتاج إلى مزيد من التدريبات على الإلقاء )، وتفوقت لغة عمنا أحمد رامي في ديالوجات الفنان أحمد البيه الذي أدى شخصية المواطن المطحون / المقهور بآداء يفوق الوصف والإشادة، وأمام حسن عزت وقفت صاحبة الوجه الجميل بكل ما تعبر عنه ( نادية ناجي ) التي جسدت شخصية ( كليمة ) ، بآداء ناعم أنثوي غاية في الرقة، إلى جوار هؤلاء يقف بثبات أهم النجوم الرواد الذين حملوا السينما المصرية على أكتافهم : حسين رياض، فؤاد الرشيدي ( كنجر المرعب ) عبد العزيز خليل ( كيشار الماكر الثعلبي، منسى فهمي ( باتاني ) حسن كامل أخطر شخصيات الدور الثاني في السينما المصرية بصوته المتلون وقوامه النحيل؛ فيمثل وكأنه ينفذ إلى عقلك بمرونة و "سهتنة"، القدير محمود السباع، النوبي خفيف الدم محمد كامل في شخصية عبد الله، إبراهيم عبد الله ( جاسوس كنجر الذي جعلنا نرتجف من وقيعته )، ومحمود لطفي ( صائد الحمام الزاجل الذي يحمل الرسائل المشفرة ) في مباراة رائعة أدارها المخرج كرامب وكأنه يدير معركة حربية بين الحرية والظلم، بين مصاصي الدماء والفقراء المعدمين.
أرشح الفيلم ضمن قائمة الأفلام السياسية ال 10 في تاريخ السينما المصرية لظهوره في الفترة الملكية التي كانت تخشى وتتوجس من فكرة المواطن الحر الذي يرى ويسمع ويفهم، عبر عن مشاهده بأيقاع يجعلك تلهث طوال 135 دقيقة هي زمن الفيلم والزمن الذي انتزع فيه المواطن حريته، المونتير ( المخرج القدير فيما بعد ) نيازي مصطفى!
واستمرت رحلة الفيلم السياسي في الشريط السينمائئ طوال العقود والعهود التالية، حتى أن فيلما من أفلامها وصل للزعيم جمال عبد الناصر أنه المقصود شخصيا بالزعيم الباطش، وهو فيلم حسين كمال المأخوذ عن قصة قصيرة للأديب ثروت أباظة ( شيء من الخوف ) ، إلا أن ثقة جمال عبد الناصر بأنه الزعيم الذي يقف إلى جوار رجل الشارع جعلتنا نستمتع بمشاهدة الفيلم حتى اليوم، ومن نفس أفلام عقد الستينيات الذهبي جاء فيل يوسف شاهين ( الأرض ) عن عمل أدبي للأديب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي، وعن عمل أدبي أيضا يأتي واحد من أروع الكلاسيكيات ( رد قلبي ) وعلي ابن الجنايني الذي أحب وخدم الوطن فانتصر له يوسف السباعي والمخرج الكبير أيقونة الرومانسية عز الدين ذو الفقار، وعن قصة جمال حماد يأتي رائعة كمال الشيخ ( غروب وشروق )، ثم القاهرة 30 وفي بيتنا رجل، ويستمر تصاعد الإحساس بالحرية بمفهومها الشامل مع ( البريء ) عاطف الطيب، "إحنا بتوع الأتوبيس" ثم أفلام الثلاثي الأساتذة الكبار: وحيد حامد، عادل إمام وشريف عرفة لإعلاء قيمة الفيلم السياسي على الشريط السينمائي وفي المقدمة ( طيور الظلام ) و ( الإرهاب والكباب ) وعودة إلى أفلام المأخوذة عن أعمال أدبية ( ثرثرة فوق النيل ) و ( أهل القمة عن انفتاح السداح مداح )، وعذرا إن كان هناك إختلافا مع رؤية الزملاء في الإسكندرية السينمائئ فهذه هي طبيعة السينما التي لا تعرف الرأي الأوحد.
-------------------------------
بقلم: طاهر البهي